العلاقة بين التعاليم المسيحية وسفر التكوين (الإنجيل)
٦- الإنجيل ”الخبر السار“
يدرك معظم المسيحيّين أن التعليم المركزي والأكثر أهمية بين التعاليم المسيحية هو الإنجيل – أي الخبر السّار بأن يسوع مات على الصليب ليدفع ثمن خطايانا. لكن السؤال: ما هو مصدر فكرة ”الخطيئة“؟ من أين نعرف أن الموت هو أُجرة الخطيئة؟ وعند أي نقطة فهم الجنس البشري بأنَّه بحاجة إلى مُخلِّص؟
إن كل هذه المبادئ الضرورية لفهم الإنجيل تترسخ قواعدها في سفر التكوين.
إن الوحي المقدَّس يخبرنا في رسالة رومية ٦: ٢٣ ”أَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ“. لكن العلاقة بين الخطيئة والموت لم تبدأ في رسالة رومية إنما بدأت في سفر التكوين. فسفر التكوين يعلمنا بأن الله هو خالقنا وبأننا مخلوقين على صورته (تكوين ١: ٢٦-٢٧). ولذلك نحن مدينون له بوجودنا وبالطاعة الكاملة لوصاياه. ويعلمنا أيضاً بأن الناس مسؤولين عن أفعالهم وبأن هناك عقوبة مترتّبةً على عدم الطاعة لله (تكوين ٢: ١٧).
في سفر التكوين نتعلم بأن العالم كان بحالة من الكمال في وقت من الأوقات، و”حسنةٌ جدّاً“ هي خليقة الله الغير المحدود والقُدّوس والمحبّ. فلو أنَّ آدم قد أطاع الله لكان عاش حياةً أبديّة في علاقةِ شَرِكَةٍ مع الله مستَمتِعاً بكمال العالم المخلوق. ولأننا نعرف أن الله بارّ ولا يقبل الشر. فبعد أن خلق الله آدم قال له ألا يأكل من شجرة معرفة الخير والشر (تكوين ٢: ١٧). فإن عصى آدم تلك الوصية سيترتب على ذلك عقوبة – فهو وبشكل مباشر سيفقد خلوده وبالنتيجة يموت (تكوين ٢: ١٧؛ ٣: ١٧-١٩).
لا يوجد في النص الكتابي أي إشارة إلى أن تلك الشجرة هي ذات سمات مميزة أو خواص روحية. إنها بكل بساطة شجرة اختارها الله ليختبر ولاء آدم وطاعته.
وقد امتلك آدم الحرية في أن يختار بين أن يقدم الطاعة المطلقة لله فيتعلم منه ويفسّر العالم من حوله على ضوء إعلانات الله له، أو أن يصير (كالله) من خلال رفض الوصية الإلهية. وبتلك الطريقة يقوم بتفسير العالم المحيط به على ضوء قواعدة التعسّفية وذهنة المحدود. للأسف إن آدم قد اختار الخَيَار الأخير، حيث سقط بالتجربة وأُغوي من قِبَل حوَّاء.التي بدورها سقطت بغواية الحية. وفي تلك اللحظة عينها فقد آدم وحوّاء خلودهما. وكانت تلك الخيانة سبباً في كسر علاقة الشركة مع الله. فمنذ تلك اللحظة ابتدأا يتقدمان بالسن ويشيخا، أي أنهما ابتدأا بالموت كعقوبة على جريمتهما في خيانة الخالق المحبّ.
لقد فَسَد كل العالم نتيجةً لخطيئة آدم. حتى إنَّ الحيوانات تعاني من الألم والموت (رومية ٨: ٢٠-٢٢، تكوين ١: ٣١) كما هو حال آدم، فلماذا؟ إن آدم كان مُسلَّطاً على العالم، وبالتالي فإن خطيئته أثَّرت في كل شيئ وعلى جميع المخلوقات التي هي تحت سلطانه، وذلك بالكيفيّة عينها التي يعاني فيها الناس في عصرنا الراهن جرّاء القرارات الحمقاء التي قد يتحذها قادتهم – فحين يقوم رئيس الولايات المتحدة مثلاً باتخاذ قرار خاطئ، ستكون النتائج السلبية لذلك القرار من نصيب جميع سكان البلاد وذلك كونهم خاضعين لسلطته الرئاسيّة. قد يبدو الأمر غير عادل بأن تعاني الحيوانات وتموت نتيجة لخطيئة آدم. إلا أن العالم لو حافظ على مثاليته ولم يتغيَّر بدخول الخطيئة في عَدَن، فإن ذلك سيشير إلى أن الله لم يعطِ آدم السلطانُ عليها ليحفظها ويرعاها كما قال عند التكوين- أي أن عدم التغيير سيشير إلى أن الله قد كَذَب – لكن الله لايكذب (عبرانيين ٦: ١٨). إن أمانة الله تتطلب أن يُقاسي كل من آدم والعالم الذي كان تحت سلطانه من اللعنة كعقوبةٍ للخطيئة.
وبما أننا نسل آدم وحوّاء، فنحن قد ورثنا عنهما الطبيعة الفاسدة – فنحن قد وُلدنا في حالة من الغربة عن المجد الإلهي مُظهِرين علامات التمرّد على الله. إلا أنَّ الله كان رحيماً على البشرية. فهو لم يترك آدم وحواء يموتان موتاً أبدياً نتيجة لتمرّدهما، إنما قدَّم لهما مُخلّصاً، شخصاً يسدّد ثمن الخطيئة التي ارتكباها، الثمن الذي هو الموت، الأمر الذي سيعيدهما إلى علاقة الشركة مع الله الذي قال لهما بأن ”نسلَ المرأةِ“ سوف يُتمُّ الأمرَ، معطياً لهما نبوءةً عن المخلِّص الذي سيأتي. وبعد أن أعطاهما أولى النبوءات المسيانية، قام الله بقتلِ حيوانٍ (أو عدّة حيوانات، وربما يكون حملاً) لِيُلبِسَ آدم وحوّاء تلك الجلود التي غطَّت خِزي خيانتهما لله وأظهرت لهما طبيعةَ خلاصهما. فيوماً ما، سيأتي ”حملٌ“ لاعيب فيه – من نسل المرأة وهو الله نفسه مُتجسّداً – وسوف يموت كيما يُعطي آدم وحوّاء حياةً جديدة. وهي حياة أبديّة في علاقة شركة تامّة مع الخالق. إن رسالة الإنجيل هي متجذّرة في سفر التكوين!
والإنجيل سيفقد معناه دون سفر التكوين. فإن قمنا باستعمال المنظور التطوري، فإن الموت كان موجوداً بشكل دائم وذلك قبل وجود الإنسان بوقتٍ طويل. فهل من الممكن أن يكون الموت عقوبةً للخطيئة؟
وإن لم يكن الموت عقوبةً للخطيئة، فلماذا مات يسوع على الصليب؟
وهل الخطيئة تحمل أي معنى في ظل المنظور التطوري؟
وإن كان العالم مليئاً بالمعاناة والموت بشكل دائم، فما هو السبب الذي قد يدفع أي شخص للتفكير في المصالحة مع الله؟
إن الكتاب المُقدَّس يعلمنا بأننا نستطيع أن نَخلُص (أي نتحرر من عبودية الخطيئة) من خلال ”وليّ الدمّ“ (كما في اللاوين ٢٥: ٤٧-٤٩ّ وفي مواضع أُخرى)، أي أنَّ إنساناً ”وليَّ دمٍ“ وحده يستطيع أن يكون مُخلّصاً.
إن الله تجسَّد آخذاً طبيعتنا البشرية ليخلّصنا بصفته ”وليَّ الدم“. فيسوع المسيح ليس إلهاً فقط، إنما هو قريبنا بالجسد. وبالتالي فإن دمه المسفوك يُحسب لنا ويُطهرنا.
إنَّ الكتابَ المُقدَّس واضحٌ جداً بأن دمَ الحيوانات غير قادِر على تسديدٍ ثمن خطايانا (عبرانيين ١٠: ٤) وذلك أن الحيوانات لا تشترك معنا بالدم، وليس من صلة قُربى بيننا. لكن في حال كان التطور صحيحاً، فإن هذا سيعني أن الحيوانات تستطيع أن تخلّصنا، على اعتبار أننا سنكون مشتركين معها بأحد الأسلاف. فإن كنا قد تطوّرنا من إحدى الحيوانات، فليس من حاجةٍ لأن يموت يسوع على الصليب.
تجدر الملاحظة في هذا المقام إلى أن هذا الكلام لا يعني بالضرورة أن من يؤمن بالتطور لا يستطيع أن يكون مسيحيّاً. فمن الطبيعي أن نجد عدد من الأشخاص ممن آمنوا بالمسيح كربٍّ ومخلّصٍ واعترفوا به إلهاً ويخدمونه بكل محبة ووداعة وبطرقٍ مختلفة، لكن في الوقت عينه يؤمنون بنوع من التطور الربوبِيّ . إلا أن الإيمان بيسوع المسيح والإيمان بالتطور من غير الممكن أن يمتزجا، كما هو حال الزيت والماء. إلا أنَّ الله يظهر مراحمه علينا حتى عندما تكون أفكارنا مشوّشة – وهذا أمرٌ جيد وإلا لكنّا جميعاً في مأزق – إلا أن هذا ليس مُبَرِّراً للإستمرار في حياتنا وفق هذا التشوش الفكري.
إن كلمةَ الله يجب أن تكون المعيار الأعلى في حياتنا، فالإعتماد على الحق الموجود في الكتاب المقدس والمنطق المتّسق فيه هي أمور تُظهِر طاعتنا لله وامتنانا وشكرنا له نظير الخلاص الذي قدَّمه لنا.
إن جميع التعاليم المسيحية ستفقد معناها إن قُمنا بعزلِها عن أساساتها التي تتجذّر في سفر التكوين.
في الختام، هل يمكن أن تكون الأخلاق بمعزل عن التاريخ؟
بعد الإطلاع على النقاط الستة التي قمنا بسردها أعلاه، قد نجد بعض المسيحيّين يقولون: ”نعم، إن التعاليم المسيحية ترجع في جذورها إلى سفر التكوين. لكن ذلك لا يعني بأن التكوين هو تاريخ حقيقيّ. الكتاب المقدس هو كتاب أخلاقي وليس كتاب تاريخ. فهو يشبه قصّة الأرنب والسلحفاة،“ ويُسهِبون بالقول ”أنت تصل إلى العبرة من القصة بالرغم من أن الجميع يعرفون بأنها لم تحدث قط.“
لكن هذا التشبيه خاطئ، إن سفر التكوين قد كتب كتأريخ، وهو يعطي الأساس التاريخي الذي تقف عليه التعاليم السيحية. وهو أمر مختلف عن قصةٍ خرافية مثل قصّة السلحفاة والأرنب. فالخرافة لا توفّر أساساً للأخلاق، إنما ببساطة شديدة هي تقدم شرحاً أو توضيحاً لحقيقةٍ ما وقد تكون حقيقةً أخلاقيةً معروفة لدى الناس. لكن في حال كان شخص ما لا يفهم هذه الحقيقة، يأتي دور الخرافة في توضيحها له. لكن في حال كان الشخص لا يؤمن بالمطلب الأخلاقي فإن قصةً خرافيةً تتناول المطلب عينه لن يكون لها أي معنى.
القصة الخرافية تستطيع أن تُقدِّم محاكاة للحقيقة ـ لكنها لا تستطيع أن تقدم أساساً تُبنى عليه هذه الحقيقة، فهي بالأساس ليست حقيقيّة.
إنَّ الحقيقة لا يُمكن أن تُبنى على خرافة!
وجميع التعاليم المسيحية التي تأسست في سفر التكوين لا يمكن أن تكون حقيقّة إن لم يكن سفر التكوين تاريخاً حقيقيّاً.