الخطيئة والموت

ثانياً، إن الإطار الزمني للخلق يفسر سبب وجود الموت كعقوبة للخطيئة. ونستطيع أن نرى ذلك من خلال المستحاثات المنتشرة حول العالم. فالمستحاثة هي البقايا المحفوظة لكائن حيّ، مثل عظام متحجرة لحيوان ما (كما ويوجد أنواع أُخرى للمستحاثات). وينتج هذا النوع من المستحاثات عندما يموت الحيوان ويتعرض للدفن السريع. فتتحلل الأجزاء الطرية من الحيوان ، لكن العظام تتمعدن. وهذا يعني أن المعادن تنقل إلى العظام بحيث أنَّها تملأ كل الفراغات الموجودة في بنية العظم معطية إياه وزنا أكبر من وزنه الطبيعي. فينتهي بنا الأمر بحجارة ذات شكل مماثل للعظم الأصلي.

يؤمن العلماء التطوريون بأن المستحاثات تعود لعدة ملايين من السنوات، وذلك بحسب الطبقة الصخرية التي توجد فيها. لكن هذا يحمل مشكلةً لاهوتيّةً كبيرة. فالمستحاثّات هي دليل على الموت. فإن كانت المستحاثات تعود إلى عدة ملايين من السنوات، فهذا سيعني بأن الموت كان موجوداً قبل أن يُخطئ آدم. فالجميع يتفقون على أن الإنسان لم يوجد منذ عدة ملايين من السنوات. لكن إن كان الموت موجوداً قبل أن يُخطئ آدم، فكيف للموت أن يكون عقوبةً لخطيئة آدم؟

إن الكتاب المُقدَّس يُعلِّم بأن الموت كان نتيجةً لخطيئة آدم. فالخطيئة دخلت العالم من خلال آدم، والموت دخل كنتيجةٍ للخطيئة (رومية ٥: ١٢، ١كورنثوس ١٥: ٢١). وهذه الحقيقة هي أساس للإنجيل. لأن ”أُجرة الخطيئة هي موت“ (رومية ٦: ٢٣)، وكان من الضروري أن يموت المسيح على الصليب ليسدد ثمن خطايانا. لكن إن كان الموت في العالم قبل الإنسان بملايين السنين، فكيف يمكن أن يكون الموت عقوبةً للخطيئة إذا كان قد سبق الخطيئة بعدة ملايين من السنوات؟ وإن كان الموت ليس عقوبةً للخطيئة، فما هو مغزى رسالة الإنجيل؟

إن المستحاثات ليست دليلاً على الموت فحسب، إنما بعض المستحاثات تحتوي على دلائل لوجود أمراض. فقد وجد العلماء دلائل على وجود أمراض مثل التهاب المفاصل، السرطان وغيرها في المستحاثات التي يعتقد التطوريون أنها تعود إلى ملايين السنين. لكن أليس تعليم الكتاب المقدس يقول بأن الخليقة الأصلية التي كانت في عَدن – كما يصفها الوحي المُقدَّس ”حسنةٌ جداً“ (تكوين ١: ٣١)؟ ويظن البعض مُخطئين بأن عدنٍ وحدها كانت في تلك الحالة من الكمال في حين أن بقية العالم لم يكن كذلك. إلا أن التكوين ١: ٣١ يشير إلى أن كلَّ شيء كان حسناً جداً – وليس فقط جنة عدن. فهل يمكن لعالم ”حسن جداً“ أن يكون مليء بالأمراض؟ إن كنت تقبل الإيمان العلماني بأن المستحاثات تعود إلى ملايين السنين، حينئذٍ سيكون العالم الذي وصفه الوحي المُقدَّس بأنَّه ”حسنٌ جداً“ مليئاً بالموت والمعاناة؟

إن تعليم الكتاب المُقدَّس واضحٌ في هذا الخصوص، إن الموت قد دخل العالم كنتيجة لخطيئة آدم. ويترتب على هذا التعليم أنَّ المستحاثات لا تعود إلى ملايين السنوات؛ إنما تشكلت بعد أن أخطأ آدم. وإنه من شأن الطوفان الذي وُصف في الأصحاحات ٦-٨ من سفر التكوين أن يكون مبرّراً طبيعياً لوجود تلك المستحاثات المنتشرة في الأرض.

ليس موت البشر فحسب

هل من الممكن أن يكون الموت قد دخل إلى الطبيعة البشرية وحدها كعقوبة لخطيئة آدم؟ وهل من الممكن أن الحيوانات كانت قبل ذلك تموت؟ إن الكتاب المُقدَّس يجعل التوفيق مع هذا الأمر مستحيلاً. بالرغم من كون بعض الآيات مثل رومية ٥: ١٢ تركز وبشكل مباشر على موت الإنسان، إلا أنه يوجد آيات أُخرى مثل رومية ٨: ٢١-٢٢ تشير إلى أنّ كل الخليقة قد تأثرت باللعنة التي وضعها الرب على الأرض كنتيجة لخطيئة آدم وليس الإنسان فقط. التكوين ١: ٣١ تصرح بأن ”وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا.“ هذه الآية تشير وبشكل مؤكَّد إلى كل الخليقة بما في ذلك الحيوانات. فنحن حين نجد أية دلائل تشير إلى أمراض عُضال في مستحاثات الحيوانات أو إلى العنف (حيوان يقتل حيواناً آخر)، نستطيع أن نعرف وبكلّ ثقة بأن هذا لم يكن جزءاً من الحالة الأصلية للخليقة قبل السقوط والتي وُصِفَت بأنها ”حسنةٌ جداً“. إنما هذه المستحاثات هي أدلة على العالم الساقط- العالم الذي ارتبط بلعنة الخطيئة.

كما أن الكتاب المُقدَّس يجعل الأمر واضحاً بأن الله قد أسس لموت الحيوانات وقت خطيئة آدم وحوّاء. فاللباس الذي ألبسه الله لآدم وامرأته لم يكن من النباتات. إنما أعطاهم الله أقمصة من جلد حيوانات. فالله قد قتل حيواناً (أو مجموعة حيوانات) مُظهراً نتيجة الخطيئة. فإن موت الحيوانات ابتدأ عند السقوط.

ماذا عن موت النباتات؟ هل من الممكن أن تموت النباتات في العالم المثالي. فنحن نعرف من سفر التكوين بأن آدم وحواء (وجميع المخلوقات الأُخرى) قد أعطوا النباتات كطعامٍ لهم (تكوين ١: ٢٩-٣٠). وبالتالي فإن النباتات، أو على الأقل بعض الأجزاء من النباتات قد ”ماتت“ قبل خطيئة آدم. فهل هذا يعني أن الموت قد وُجد في العالم قبل أن تدخل الخطيئة؟

الكتاب المقدس لم يذكر ولا في مرة من المرات أن النباتات ”حيّة“. فالوحي المُقدَّس يستخدم كلمة محددة ”נֶ֣פֶשׁ تُقرأ نَفَشْ“ للإشارة إلى الحياة. وهذه الكلمة قد استخدمت للإشارة إلى الإنسان والحيوانات، إلا أنها لم تستخدم لتوصيف النباتات. فوفقاً لتصنيف الكتاب المقدس إن النباتات ليس حيّة بالمعنى الحقيقي، أو على أقل تقدير ليست حية بنفس مفهوم الحياة الذي نحن أحياء وفقه. وذلك بطريقة مشابهة لقولنا إن ”البطارية ميتة“ فهي لم تكن حيّة وفق المفهوم البشري للحياة.

إن التصنيف الإحيائي المُعاصر يختلف عن التصنيف التوراتي. فعلماء الأحياء يشملون النباتات والميكروبات ضمن قائمة الكائنات الحيّة، علماً أنه ليس هنالك من خطأ في تصنيفهم وفق هذا الأسلوب. لكن يجب أن نكون عارفين أن الأشجار ليس حيّة بنفس المعنى الذي تكون فيه الحيوانات حيّة. فأنت قد تجلس على جذع شجرة ميتة في الطبيعة. لكن هل ستجلس على جُثّة حيوان ميت في الغابة؟ نحن نفهم أنه يوجد اختلاف نوعي بين النباتات ”الحيّة“ والحيوانات بوصفها بالحقيقة حية. فالكائنات الحيّة ”التي في أنفها نسمة حياة נֶ֣פֶשׁ نَفَشْ“ لم تعرف الموت قبل الخطيئة.

يَدَّعي البعض وبطريقة خاطئة بأن موت (الكائنات الحيّة) هو جزء ضروري من التكوين. لكن من المنظور المسيحي، فإنه ليس عقلانياً الإعتقاد بأن الله الكلي القدرة غير قادر على تصميم حياة دون أن يستخدم الموت. فالكتاب المُقدّس يعلّمنا بأن الموت سيُهزم (١كورنثوس ١٥: ٢٦، الرؤيا ٢٠: ١٤). والأمر الأكيد هو أنه لن يوجد موت في الملكوت السماوي – وهذا نوع آخر من الإشارات إلى أنَّ الموت ليس ضرورياً للحياة.

قد يقول بعض المعترضين: ”ماذا عن كثافة أعداد الكائنات. وأن بعض الحيوانات تتغذى على اللحم فقط. فلا بد أن يوجد الموت قبل سقوط آدم في الخطيئة.“ إلا أن المنطق المستخدم في هذا الإعتراض هو منطق خاطئ يعتمد على قراءة الواقع الحالي المرتكز إلى العالم الذي وقع تحت اللعنة. ففي يومنا الحاضر يوجد حيوانات لاحمة، لكنها في الأصل كانت كلها عاشبة (تكوين ١: ٣٠). إن الكثافة المتواجدة لبعض الحيوانات في أجزاء من العالم يعتبر مشكلة إلا أن الوضع لم يكن هكذا قبل الخطيئة واللعنة. ومن المنطقي الإعتقاد بأن الله قادر على إدارة العالم بطريقة متوازنة. ومن المنطقي أيضاً الإعتقاد بأن الله كان سيعمل على توازن التكاثر لدى الحيوانات أو إبطاء معدل تكاثرها أو ايقافه عند بلوغ الحد المناسب للاستقرار. وفي الحقيقة هذا الموضوع ليس مهماً للغاية فنحن نعرف أن آدم قد وقع في الخطئية وحلَّت اللعنة على العالم وبالتالي فإن كل هذه التوقعات مبنية على افتراض عدم سقوط آدم في الخطيئة، وهذا ليس هو الحال.

إن الإطار الزمني للخلق هو موضوع بالغ الأهمية كونه يرتبط ارتباطاً حيوياً برسالة الإنجيل. فإن لم يكن من الممكن الثقة بتعليم الكتاب المُقدَّس عن الخلق ذو الستة الأيام، فأين هي بداية الحقيقة حينئذٍ؟ وإن كان الكتاب المُقدَّس هو كلمة الله، أليس من المنطقي أن نؤمن أنه لا يحتوي على أخطاء؟ فهل يقع الله في الأخطاء؟ 

وخلاصة الأمر، إن الإطار الزمني العلماني يقلل من شأن رسالة الإنجيل. فإن كانت المستحاثّات هي بالحقيقة تعود إلى ملايين السنين، حينئذٍ لا يمكن أن يكون الموت هو عقاب الخطيئة. فلماذا أرسل الله ابنه الوحيد ليتلقّى ذلك الموت المروّع على الصليب؟

إن رسالة الإنجيل تعتمد بشكل مباشر ومنطقي على التاريخ المُسجَّل في سفر التكوين.