اليونانيّين واليهود

إنّ اليهود الذين كانوا في أيام خدمة يسوع الأرضية قد فهموا سفر التكوين، وبالتالي فإنهم قد عرفوا بحاجتهم إلى مُخلِّص. إلا أن عدد كبيراً منهم لم يُدرك الحقيقة بأن يسوع المسيح كان هو ذلك المخلِّص. إن تلك الحقيقة بأن المسيح يسوع هو المُخلِّص المُنتَظَر كانتحجر عثرةٍلهم. أما من جانب آخر، فإن اليونانيّين في ذلك الوقت لم يكن لديهم معرفة عن سفر التكوين في معظم أجزاءه. فقد آمنوا بعالم بالغ القِدَم ولم يكن لديهم أي معرفة عن مفهوم الخطيئة الأصلية أو اللعنة. حقيقة الأمر أنّ إيمانهم يشبه إلى حدٍّ كبير إيمان التطوريّين المُعاصرين. وبالتالي فإن اليونانيّين لم يكونوا بانتظار مُخلِّص. ولم يدركوا أنهم بحاجة لمُخلِّص. بالنسبة لهم إن رسالة الإنجيل لا تحمل أي معنى. والكتاب المقدس يفسر ذلك في رسالة كورنثوس الأولى ١: ٢٣وَلكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً!“.

في أعمال الرسل ٢: ١٤٤١، نقرأ سرداً قام  بطرس الرسول من خلاله بتقديم رسالة إلى اليهود غير المؤمنين. بطرس كان قد فهم أن اليهود يعرفون التكوين، ويعرفون عن الخطيئة الأصلية، وأنهم يعرفون بأن أُجرة الخطيئة هي الموت وبأننا جميعاً نستحق الموت والإنفصال عن محبة الله، كذلك يعرفون بالوعد بالمخلّص الذي سيخلّصهم من خطاياهم، وبالتالي فإن بطرس قام بتقديم دفاعٍ منطقي مبيّناً لهم أنَّ يسوع هو بالحقيقة المُخلِّص المُنتَظَر. وكان كلّ ما فعله بطرس هو مساعدتهم على تجاوز حجر العثرة.

ومن جانب آخر نقرأ في أعمال الرسل ١٧: ١٨٣٤ أن بولس الرسول كان يُبشِّر فلاسفة اليونانيّين وَسْطِ أَرِيُوسَ بَاغُوسَ. ولم يكن لدى هؤلاء اليونانيين المعرفة الأساسية عن التكوين، إنما كانوا يمتلكون نوعاً من الأساسات الخاطئة لنوعٍ من الفلسفات التطورية، وقد كان بولس على علمٍ بهذالذلك ابتدأ من التكوين.

إن بولس قدّم إلى الحاضرين تفسيراً عن طبيعة الله مشيراً من خلاله إلى أنَّ الله هو الخالق الذي خلق السماوات والأرض (أعمال ١٧: ٢٤) وبأن الله هو صاحب السيادة والسطان على كلّ التاريخ البشري، وبأننا جميعاً من رجلٍ واحد (أعمال ١٧: ٢٦). ولم يقم بولس بتعليمهم عن سفر التكوين فحسب، إنما قام بدحض تعاليم اليونانيّين البديلة. لقد أظهر لهم أنَّ آلهة اليونانيّين ليست آلهة حقيقيّة، فهي موضوعة في هياكل مصنوعة بأيدي الناس، وليس لها السلطان أن تخلِقَ أو تسيطر على العالم (أعمال ١٧: ٢٤٢٥). كما أنه قد عرض لهم عدم الإتساق والتعسف الذي يطغى على طريقة تفكيرهم مستبدلاً نظرتهم الخاطئة عن الأصول بالتاريخ الحقيقي المسجل في سفر التكوين. وفقط بعد هذا العمل التأسيسي انتقل الرسول بولس بعد ذلك ليخبرهم عن ضرورة التوبة، وفي النهاية نقل لهم البشرى السّارة بقيامة المسيح (أعمال ١٧: ٣٠٣١).   

إن الاستراتيجية التي استخدمها بولس الرسول مع جمهور المستمعين من ذوي الإطلاع العلمي والمثقفين اليونانيّين كانت قد اعتمدت على هدم نظرتهم الخاطئة إلى العالم واستبدالها بالحقيقة عن الخالق.

من الغريب أننا نجد أن البعض من المسيحيّين قد أخذوا رسالة خاطئة تماماً من أعمال ١٧: ١٨٣٤. فيقولون أن الرسالة والأسلوب الذي اتبعه بولس لم يكن ذو فعالية، إذ أن الأشخاص الذين آمنوا بعد ذلك المجهود لم يكن كبيراً. ويقولون بأن بطرس كان ذو تأثيرٍ وفعاليةٍ أكبر إذ أنه وفق الأصحاح الثاني من أعمال الرسل نجد أنه قد آمن ثلاثة آلاف شخص وخَلُصوا. وفي النهاية يأتون إلى نتيجة بأنَّ رسالتنا التبشيرية يجب أن تتبع أسلوب بطرس وليس أسلوب بولس. لكن أليس هذا إغفالاً لجانب أساسي من المعنى المتضمن في الآيات؟

إن بولس الرسول كان يُبشّر جماهير معادية للكتاب المُقدَّس ورافضة للتكوين. في حين أن بطرس كان يُبشر اليهود الذين يؤمنون بالكتاب المُقدَّس! إن الجمهور الذي واجهه بولس كان أقسى وأشدَّ، ومن غير المنطقي توقّع أن يؤمن جمهور كبير من الأُمم ويكون مساوياً أو قريباً من الذين سيؤمنون من أهل الختان، وخاصةً في ضوء ما يعلّمه الوحي المقدس في رسالة كورنثوس الأولى ١: ٢٣.

إن الرسول بولس كان ناجحاً جداً لكن هذا لا يعني أن الجميع يجب أن يستجيبوا لرسالته. فالبعض من الحاضرين قد ازدرى وسخر من الرسالة، في حين أن البعض الآخر قد طلب أن يسمع المزيد (أعمال ١٧: ٣٢). والأمر اللافت هو أن عدداً من الحاضرين قد قبل الرسالة وآمنوا بشكل فوريّ (أعمال ١٧: ٣٤). وبالقياس إلى مدى تعنّت المستمعين فإن بولس كان ناجحاً بامتياز.

فلنتأمل في عصرنا الراهن، هل المستمعين المعاصرين لرسالة الإنجيل يشابهون اليهود الموصوفين في الأصحاح الثاني من أعمال الرسل أم أنهم أقرب إلى اليونانيّين الموصوفين في الأصحاح السابع عشر؟ هل تؤمن الغالبية العظمى من الناس بالتاريخ المُسجَّل في سفر التكوين، أم أنها تؤمن ببديل تطوريّ ما؟ من الواضح أن عالمنا المعاصر يشبه المستمعين اليونانيّين. لنتأمل أيضاً بنوعي الرسالة التي نستمع إليها بالعادة، ماذا كان موضوع آخر خمس عِظات استمعت إليها في الكنيسة؟ هل كان أي منها يقدم لك التعليم عن كيفية دحض التعاليم غير الكتابية؟ هل قدمت لك الأدوات المناسبة وهيّأتك للدفاع عن الإيمان بكلّ ثقة، لتهدم كل جدل غير مسيحيّ وتكون قادراً على مشاركة إيمانك معاليونانيّينالذين لا يمتلكون المعرفة عن الله الخالق؟ إن كان الوضع كذلك، فأنت مباركٌ إذ أنك عضو في كنيسة صالحة وتتلقى تعليماً نادراً ما يتم تقديمه.

التبشير المسيحي يتخذ أشكالاً متعددة، والأمر الأكيد أنه ليس من خطأ في استعمال أسلوب التبشير الذي استخدمه بطرس في أعمال ٢. فالبعض من الأشخاص هم بحاجة للاستماع إلى هذا النوع من التبشير. إذ أن البعض من الأشخاص يؤمنون بالخلق ويمتلكون معرفة بماهيّة الخطيئة ويعرفون بحاجتهم إلى مُخلِّص. إن حالة هؤلاء تشبه حالة اليهود الذين تعامل معهم بطرس الرسول في الإصحاح الثاني من أعمال الرسل  ويجب أن نستعمل نحن معهم نفس الأسلوب في التبشير. لكن يجب أن نميّز أيضاً أن القسم الأكبر من الأشخاص في أيامنا هذه يتشابهون مع اليونانيّين الذين تعامل معهم بولس الرسول في وَسْطِ أَرِيُوسَ بَاغُوسَ. وهم بحاجة إلى أن يتم فضح خطأ نظرتهم التطورية، بعد ذلك أن يتمّ تقديم المعرفة الأساسية عن التكوين لكي يكونوا قادرين على فهم رسالة الإنجيل. وخاصةً في مجتمعاتنا المعاصرة حيث أنه من أجل أن تكون كرازتنا فعّالة يجب أن نقدم بعض الدفاعيات أولاً.

لم تكن هذه القضية إشكالية في الماضي كما هي اليوم، فكثير من المجتمعات الحديثة قد نشأت وتأسست على القيم المسيحيّة. وكنتيجة لهذا فإننا نرى أن معظم التاريخ الثقافي والحضاري كان مترابطاً مع الثقافة والتعاليم المسيحيّة. فمعظم الأمريكيّين مثلاً كانوا يواظبون على الحضور إلى الكنائس ويعترفون بالإيمان المسيحيّ. حتى بالنسبة لأولئك الذين لم يكونوا مسيحيّين، كانوا يتعاملون باحترام مع الكتاب المقدس ومبادئه. وسيكون من المنصف القول أنه في الفترات الماضية كانت الولايات المتحدة وغيرها من الأمم المسيحية المنشأ تتشابه مع اليهود الموصوفين في الأصحاح الثاني من أعمال الرسل أكثر من تشابهها مع اليونانيّين الذين في الأصحاح السابع عشر.

في الحقبة الماضية ـ استطاعت الكنيسة وبسهولة أن تقدم الوعظبالمسيح المصلوب“. ذلك أن معظم الناس يؤمنون بالخلق ويمتلكون معارف أساسية عن الكتاب المُقدَّس، لذلك كان التبشير والوعظ فعالاً من خلال مساعدتهم على تجاوزحجر العثرة“. حتى في القرن العشرين، كنّا قد رأينا خلاصاً جماعياً للملايين من الأشخاص الذي أتوا إلى الإيمان بالمسيح من خلال الحملات التبشيرية التي انطلقت إلى أنحاء مختلفة من العالم. فالرسالة التبشيرية التي في الأصحاح الثاني من أعمال الرسل هي ذات فعالية حين تُستَعمَل مع جمهور يتشابه مع الجمهور الذي كان حاضراً هناك.

هذه هي النقطة الرئيسية، فكل واحد منا يجب أن يضع في اعتباره نوعية الجمهور المُستهدف من الوعظ والتعليم والكَرَازة الذين يقدّمهم.

إن حضارتنا في هذه الأيام المعاصرة تتشابه كثيراً مع اليونانيّين الحاضرين في أعمال الرسل ١٧. فالكثيرون يرفضون سفر التكوين ويتبنّون الأفكار التطورية كتفسير لموضوع الأصول. وبالتالي فالعديد منهم ليسوا مُهتمّين بالاستماع إلى رسالة التبشير التي في الأصحاح الثاني من سفر الأعمال. إنهم يريدون الدليل. ويحتاجون أن يُقدَّم لهم دفاع عن الإيمان المسيحي (١ بطرس ٣: ١٥) ليُستخدم كجسر للعبور إلى التبشير. إن الإقرار والإعتراف بأن جمهورنا المعاصر هو أقرب إلى أن يكون مثل المتشككين اليونانيّين الذين كانوا في أيام بولس الرسول سيساعدنا جميعاً على إيصال رسالة الإنجيل بطريقة يكونون قادرين على استيعابها.

إن عظة بولس الرسول في أعمال الرسل ١٧ هي مثال ممتاز يجب أن نحذو حذوه فنعمل على شرح رسالة الإنجيل من بدايتها في سفر التكوين لجمهوراليونانيّينالمعاصرين. ويجب أيضاً أن نكون مستعدين لإجابة أي شخص يقدّم تحدّياً لكلمة الله، لنكون مُجاهرين علانيةً، مقدّمين الردود العقلانية التي تتعامل مع حضارتنااليونانيةالمُعاصرة. وإن اتباع النموذج الكتابي للتعليم سوف يقود وبدون أدنى شك إلى أن الملايين من الجماهير سوف تكون قادرة على فهم رسالة الإنجيل والإعتراف بالله كمخلّصٍ وخالقٍ وملكٍ على حياتهم.

آمين.