الخائن أم الضحية؟ نظرة عامة على إنجيل يهوذا.

كاتب المقال:
Cover Image for: thegospelofjudas
يُمكنكم الحصول على هذا الكتاب من خلال إحدى المنصات التالية:

مقدمة

ماذا لو أعلمتكم أنَّه توجد رواية عن يهوذا الإسخريوطي تقوم بتقديم خيانته ليسوع على أنَّها من باب الطاعة له؟ هل من الممكن أن يوجد سردٌ ينقل لنا كيف أن يهوذا كان ضحيّةً لظروفٍ مؤسفةٍ، وبأنَّ طاعته من خلال فعل الخيانة الذي قام به سوف تقود إلى سلطانه في الحياة الآتية؟ حسناً، إن هذا هو مايقدمه إنجيل يهوذا.

لقد تمَّ اكتشاف هذا السرد في سبعينيات القرن الماضي في كهفٍ بالقرب من مدينة المنيا المصرية، بعد أن اختفى النص هذا لفترة تقارب ألفاً وسبعمئة عام. ومن ثمَّ تمَّ شراء المخطوطة من قِبَل تاجرة الآثار فريدا نوسبرغر- تشاكوس، وسُمّيت لاحقاً بإسمها، أي مخطوطة تشاكوس (Codex Tchacos). لقد كانت المخطوطة بحالة سيئة جداً، وتم إرسالها بشكل فوري إلى مؤسسة مايسيناس (Maecenas) للفن القديم في بازل، في سويسرا بغرض حفظِها.

إن المخطوطة هي عبارة عن ما يقرب من ستة وستين صفحةً تحتوي على إنجيل يهوذا، ورؤيا يعقوب الأولى، ورسالة بطرس إلى فيلبس، وتجربة المُتغرّب ( Temptation of Allogenes). لقد تمَّ تأريخ المخطوطة باستخدام الكربون المشع ويقدَّر أنها ترجع إلى بدايات القرن الرابع. من المرجح أن النص الأصلي كان باللغة اليونانية، ويرجع هذا الترجيح إلى مقدار المصطلحات اليونانية التي تتم استعارتها في هذه المخطوطة القبطية. إن إيريناوس الذي عاش في الفترة الممتدة بين  ١٣٠-٢٠٢م، كان قد جادل ضدَّ كتاب كان في متناول يده وكان يُعرف بإسم إنجيل يهوذا ووصفه بأنَّه ”تاريخ خياليّ“. يمكن للمرء أن يصل بسهولة إلى افتراضٍ يفيد بأنَّ السرد الذي كان يشير إليه إيرناوس هو ذات السرد الموجود في مخطوطة تشاكوس، وهذا ما قد يرجح كون الكتابة الأصلية قد وُجِدَت في فترة ما من منتصف القرن الميلادي الثاني.

خلفية النصّ

إن التصريح الإفتتاحي لهذا السرد يقول التالي: ”هذا هو سرد الإعلان السري الذي قاله يسوع ليهوذا الإسخريوطي طوال أسبوع، ثلاثة أيام قبل الإحتفال بالفصح.“ يتم تقديم اللغة الغنوصية النموذجية بشكل مباشر لنا من خلال عبارة ”سرد الإعلان السري.“ وكما سبق وأوضحنا في المقالات السابقة (انجيل توما، وإنجيل مريم)، فإن الغنوصيّين سوف يقومون بوضع اسم الكُتّاب و”التعليم السري“ الذي قد تلقوه من يسوع في مقارنة مع الآخرين.

يوجد مشكلة تستمر في الظهور عند التعامل مع هذه السرديات. فأيُّ شاهد عيان ليسوع ممن قد تلقوا رؤيا سرية يمتلك أفضل شهادة بالمقارنة مع الآخرين؟ هل هو توما؟ هل هي مريم المجدلية؟ هل هو فيليبس؟ أم أنه يجب علينا أن نصدق يهوذا الإسخريوطي؟ إن هذه الأناجيل الغنوصية تُظْهِر عموماً أنها متناقضة مع الأناجيل القانونية، ولكن الحقيقة هي أنَّ هذه الأناجيل متناقضة بعضها مع بعض أيضاً. إن هذه الأناجيل تفتقر إلى الإتساق بعضها مع بعض، وفي بعض الأحيان تقدم تحديات بعضها لبعض.

يسوع الساخر

يظهر يسوع إلى درجة معينة في هذه الرواية على أنَّه ساخر. فهو عادةً ما يضحك بسخرية على تلاميذه وعلى يهوذا حين يقومون بتوجيه أسئلة حول التفسير. في البداية، كان التلاميذ يرفعون صلاةً على وجبة طعام، ونجد أن يسوع قد ضحك على صلاتهم. ويأتي النص بالشكل التالي: ”حين أتى إلى تلاميذه [أثناء] جلوسهم معاً [وكانوا] يُصلّون على الخبز، ضَحِكَ. قال له التلاميذ: ’يا مُعلِّم، لماذا تضحك على صلاتنا؟ مالذي فعلناه؟ إن هذا هو الأمر الصائب.‘ فأجاب وقال لهم: ’ أنا لا أضحك عليكم. أنتم لا تفعلون ذلك لأنكم تريدون، ولكن لأنه بذلك [سوف] يتمجَّد إلهكم.‘ فقالوا: ’يا سيّد[أو مُعلِّم] أنت […] ابن إلهنا!‘. قال لهم يسوع: ’كيف [أنتم] تعرفونني؟ الحقّ [أنا] أقول لكم، ليس بينكم جيل من الناس ممن سيعرفونني‘ “.

ردّ التلاميذ

إن ردّ َ فعل التلاميذ كان بأنَّهم ”بدأوا يغضبون ويحنقون وبدأوا يجدفون عليه في قلوبهم.“ لكن يسوع قد ناداهم وتحداهم قائلاً: ”إن كان بينكم من هو [قوي بما فيه الكفاية] بين البشر لكي يأتي بالإنسان الكامل“. لقد اعتقد التلاميذ بأنهم أقوياء بما فيه الكفاية، إلا أنَّ النص يقول: ”لكن أرواحهم لم تكن جريئة بما يكفي لكي تقف أمامـ[ـه] - فيما عدا يهوذا الإسخريوطي“. لقد ادَّعى يهوذا بأنَّه قد عرف المكان الذي أتى منه يسوع، ولكنه لم يكن قادراً على مواجهته. فقال بأنَّ يسوع قد أتى من ”العالم الخالد لباربيلو.“

ما هو العالم الخالد لباربيلّو؟ يرجع هذا المفهوم إلى الإيمان الغنوصي بالخلق السيثيّ. وهو ما يدعوه جون تورنر بإسم ”الثالوث الأسمى“ (الأب والأم والطفل [أو الإبن]). يأتي التعليم المختص بهذا المفهوم وفق الشكل التالي: الأب هو الروح اللامتناهي وغير المرئي الذي يسمو على جميع العوالم. الأم (باربيلّو) هي ”الصورة المنعكسة للأب. أما الطفل، الذي يُدعى أيضاً أوتوجينيس (المسيح الموجود سابقاً)، والذي يعني ”ذاتيّ-التولّد أو النشوء“ هو ناتج من باربيلو إما أن ذلك قد حدث بشكل عفويّ أو نتيجةً لشرارة نور الأب. وقد قام الأوتوجينيس بخلق كيانات أُخرى تُعرف بالأنوار والأيونات.

على الرغم من أنَّ هذه المصطلحات قد تبدو غريبةً بالنسبة إلى مؤمني العهد الجديد، إلا أنها ضرورية لفهم الأقوال السرية التي قالها يسوع ليهوذا. لقد كان كاتب إنجيل يهوذا يؤكّد بشكل متعمد على ضرورة الخلاص الآتي من خلال الهرب من العالم المادي والدخول إلى العالم الروحي.

التأثيرات اللاهوتية

يوجد مكوّنات ضرورية لتفسير الشخصيات الروحية. فالله قد خلق ملائكة وآلهة أدنى [منه] في بداية الزمان. كان يوجد اثنا عشر من الملائكة المحدّدين بذاتهم، وهم كانوا قد خُلقوا ليقوموا بحُكم العالم السفلي وكلّ الفوضى التي في العالم الماديّ. أُعطي لسبعة من الملائكة مسؤولية خَلْق آدم، ولم يكن الله من فعل ذلك. ونقرأ في النص مايلي:

”قال ساكلاس لملائكته: ’لنخلق كائناً بشرياً على المثال والصورة‘. فقاموا بتشكيل آدم وزوجته حوّاء.“

نجد أن سقوط البشرية كان في قتل قايين لهابيل. وانتهت الصلة بين الله وبين العالم الخالد. لقد أُرسِلَ يسوع بوصفه ابن الإله الحقيقي، وذلك عوضاً عن إرسال أيّ واحد من الآلهة الأدنى. كان هدفه هو إظهار أن الخلاص يأتي من خلال الإتصال مع النور الداخلي الإلهي الموجود في البشر، وبأن نهاية الخلاص تأتي عند الموت حين يهرب المرء من العالم الماديّ. هذه هي الطريقة التي يقوم وفقها الله باستعادة الإتصال الذي انقطع بين الروحيّ الجسديّ.

المحادثة السرية بين يهوذا ويسوع

نجد ضمن السرد أن يهوذا قد حظي بامتياز فريد كان قد تمثل في أنَّه قد عُزِلَ عن الآخرين وأُعطي تفسيراً سرياً للرؤيا. لقد كان من الواضح أن الأحد عشر الآخرين كانوا على خطأ في تفسيرهم عن الخلاص. يظهر من إنجيل يهوذا أنهم كانوا مُعتمدين على المادة الجسدية لتُخلِّصهم. لقد كانوا يركّزون على الأضاحي الحيوانية، والتي كانت تقوم بإرضاء الآلهة الأدنى ولكنها لم تكن قادرة على مساعدتهم في التواصل مع الله بذاته.

لقد أعطي ليهوذا لمحة خاصّة عن الحالة الأبدية للبشر. ونجد في السرد أن يسوع يقول:

”جميع أرواح جيل البشر سوف تموت؛ ولكن عندما يُتمُّ هؤلاء زمن الملكوت، وتُغادرهم الروح، فإنَّ أجسادهم سوف تموت، ولكن أرواحهم سوف تحيا، وسوف يتم رفعهم إلى أعلى“.

فليكن حاضراً في ذهنك أن الإيمان الغنوصيّ حيال الروح يختلف عن التعليم الكتابي. فإنهم يُعلمون بأن الروح موجودة قبل الزمن وقد أعطيت لها أجساد فانية (بشرية) لكي يتم استعادتهم في يومٍّ من الأيام إلى العالم السماوي.

يُسارع يهوذا في تقديم السؤال الذي قد يطرحه معظمنا، ”هل تموت الروح البشرية؟“ فيجيب يسوع بالقول:

”هذا ما حدث. أمر الله ميخائيل أن يُقرِضَ البشر أرواحاً لكي يَخدِموا. ومن ثمَّ فإن الواحد العظيم أمر جبرائيل أن يُعطي أرواحاً للجيل الأعظم دون ملك - الروح والنفس معاً. …[…]… ولذا ابحث (أو دع) الروح التي في داخلك تسكن في هذا الجسد بين أجيال الملائكة. ومن ثمَّ سيتسبب الله بإعطاء المعرفة لآدم وأولئك الذين معه حتى لا يتسلط عليهم ملوك الفوضى والهاوية.“

في خلاصة هذا القسم نجد أن ميخائيل قد أقرَضَ أرواحاً للناس. ومن ثمَّ جاء جبرائيل وأعطى الروح مع النفس للجيل العظيم الذي لم يُحكَم من الملائكة الإثني عشر الذي يتسلطون على الفوضى والهاوية. وبعد أن أفسد البشر ذواتهم، فإنهم كانوا قد حُكِموا من الهاوية والفوضى. فقد أبناء آدم المعرفة التي كانت قد أُعطيت لهم عند الخلق، فسيطرت الظلمة والفوضى على أذهانهم.

خيانة يهوذا

إن القسم الذي يتحدث عن الخيانة هو أحد أهم الأقسام في هذا المستند. لقد تمَّت دعوة يهوذا إلى الدخول إلى السحابة التي على مايبدو كانت بغرض التحويل. ونقرأ أن يسوع قال: ”أنت سوف تفوقهم جميعاً. لأنك سوف تُضحي بالإنسان الذي يُغطيني.“

يمكن أن يتم إيضاح قول يسوع كما يلي: في الوقت الذي كان التلاميذ الآخرين يهدرون وقتهم في البحث عن الفداء من خلال تقديم الأضاحي الحيوانية، كان يهوذا يقوم بالتضحية بجسد يسوع الماديّ، مما يسمح ليسوع بإتمام مهمته. لاحظ التصريح الغنوصي الطابع الذي أدلى به يسوع حين قال: ”الإنسان الذي يغطيني“. إن الجسد هو كيان منفصل عن يسوع نفسه. ويجب أن نتذكر أن الجسد بطبيعته هو شرير. وبالتالي فإنَّه يجب أن يحدث انفصال بين الإثنين. في المحصلة، إن يهوذا أطاع يسوع وساعده على تحقيق الخلاص لغير المستنيرين.

لطالما تمَّ تقديم يهوذا الإسخريوطي طوال هذه السنوات على أنَّه الشرير الخائن. إلا أنَّ هذا السرد قد قام بتغيير القضية بأسرها من خلال تقديمه على أنَّه ضحيّة وشخص مُطيع. لا نجد أي ذكرٍ للشيطان الذي دخل قلبه (لوقا ٢٢: ٣) أو قبلته الغاشّة (لوقا ٢٢: ٤٨). لقد كان وعد يسوع ليهوذا بأنَّه سوف يحكم الجيل الذي يكرهه وبأنَّه سوف يُعطى مكانةً مرموقة. وينتهي سرد الإنجيل هذا بالكلمات التالية:

”كان رؤساء كهنتهم يتمتمون لأنه قد دخل إلى قاعة الضيوف ليصلي. ولكن بعض الكتبة كانوا هناك يراقبون بحذر لكي يقبضوا عليه أثناء صلاته لأنَّهم كانوا خائفين من الشعب، لأن الجميع كانوا ينظرون إليه كنبيّ. فاقتربوا إلى يهوذا سائلين إياه: ’مالذي تفعله هنا؟ ألست تلميذاً ليسوع؟‘ ثم أجابهم كما أرادوا. فأعطوا يهوذا بعض المال وهو قد أسلمه إليهم.“

الخلاصة

إن هذا النص يُظهر بوضوح كيف أن انجيل يهوذا يفشل في تحقيق الشروط الأربعة المطلوبة من السفر القانوني:

  • الصفات الإلهية. إن التعاليم المختصة بصفات الله لا تتوافق مع الكتاب المقدس. إن الله كان واضحاً منذ البداية حين أعلن بأنَّه دون سفك دم لا توجد مغفرة للخطايا (انظر العبرانيين ٩: ٢٢)، لكن هذا السرد ينقل لنا أن الذبائح هي أمر غير ضروري وبأنَّ يسوع قد سخر منها. في المقابل فإننا نجد أن بولس كان قد علَّم أنَّنا نقترب من الله من خلال دم المسيح (انظر أفسس ٢: ١٣).
    إن السرد الذي يقدمه إنجيل يهوذا عن الخلق مختلف اختلافاً جذرياً عن النصوص القانونية التي تقول أن الله كان قد خلق الإنسان على صورته. إلا أنَّ إنجيل يهوذا يقول بأنَّ ساكلاس وستة من الملائكة الآخرين هم من قاموا بخلق آدم وحواء. من المُلاحظ أنَّه يتم تشويه صفات الله الشخصية في مواضع مختلفة من إنجيل يهوذا.
  • التتبع رجوعاً إلى الرسل. لا يوجد سجل تاريخي يُرجِع هذا السفر إلى أي مصدر رسوليّ. كان إيريناوس قد رفض هذا السرد وصرح بأنَّه كان من مصدر هرطوقي.
  • القبول الجماعي من الكنيسة. لم يتلقى هذا السرد أي اهتمام يذكر فيما عدا كتابات إيريناوس. وكان قد اختفى لمدة تقرب من ١٧٠٠ عام، والشاهد الوحيد عنه هو مخطوطة قبطية مجزّأة. وهذا يشكل دليلاً على أنَّ الكنائس الرسولية لم تتلقاه أو تقوم بإعادة توزيعه.
  • الموثوقية الجوهرية. يوجد اختلافات في مواضع متعددة في التعليم المختص بالروح. في بعض المواضع من هذا السرد نجد أن يسوع يُعلم بفناء الروح، في حين أنَّه يُعلِّم باستمرارها في مواضع أُخرى. كما يوجد اختلافات داخلية أُخرى تختص بتقديم يهوذا، حيث نجد أن يسوع يدعوه في أحد المواضع بلقب ”الشيطان الثالث عشر“، وفي موضع آخر يدعوه ”الأعظم على الإطلاق“. إن التعاليم الغنوصية الموجودة في هذا السرد مستقلة بذاتها وذلك عند مقارنتها مع الكتابات الغنوصية القديمة الأُخرى.

يتوجب على الكنيسة أن ترفض إنجيل يهوذا بشكل قاطع. إنَّه هرطوقيٌّ بحسب طبيعته، وكما قال عنه إيريناوس هو ”تاريخ خياليّ“. إنَّه لا ينتمي إلى الأسفار القانونية، كما أنَّ معظم محتوياته غير موثوقة سواء كان ذلك من الناحية التاريخية أو من الناحية اللاهوتية. كما ذكرت في مقال سابق، على الرغم من أن العديد من المؤمنين لن يكونوا مسرورين من اللاهوت الموجود في انجيل يهوذا، إلا أنهم يجب أن يكونوا واعين لتعليمه. إن هذه الدراسات سوف تساعد على فهم نوعية التعاليم التي كانت الكنيسة المبكرة تقوم بمواجهتها.

الدكتور ستيڤن بويس