السّماح للكتاب المُقدَّس بأن يُفسِّر نفسه
ليست قواعد اللغة والسياق الأدبي هي السبيل الوحيد لكي نتعلم عن الكيفية التي يجب أن نقوم وفقها بقراءة وتفسير الكتاب المُقدَّس، فالكتاب المقدس نَفسَه يُعلِّمُنا عن الكيفية التي يجب علينا أن نتعامل من خلالها مع النصوص المُقدَّسة. وذلك من خلال النظر إلى الكُتَّاب الآخرين للوَحي المقدس والطريقة التي تعاملوا بها مع الأسفار الأُخرى. ولن يكون الأمرُ أشدَّ وضوحاً من أن نعود إلى مؤلّف الكتاب المقدس نفسه – الربُّ الكلمةُ يسوعُ المسيح نفسه. فكيف كان تفسير يسوع المسيح لسفر التكوين؟
يسوع المسيح وسفر التكوين
إن يسوعَ المسيح قد استشهَد بآياتٍ من العهدِ القديم، وقد أجاب المعترضين مبتدءاً بالقول ”مَكْتُوبٌ“ أو ”أَمَا قَرَأْتُمْ“ مُتْبِعاً إياها بالإقتباس المُتَّصِل بالموضوع. (انظر متى ٤: ٤؛ ١٢: ٣). وغالباً ما يتفاجأ الناس حين يعرفون عدَدَ المرّاتِ التي استخدمَ يسوع اقتباساتٍ من سفرِ التكوين – فإنَّ عددَ المراتِ التي أشارَ فيها إلى سفرِ التكوينِ منَ الكَثَرةِ أنها تُكافئ المرّاتَ التي أشارَ فيها إلى بقيةِ أسفار العهد القديم مُجتمعةً. بشكلٍ تقريبيّ إنَّ نصفَ الإقتباساتِ التي أشارَ فيها المسيحُ إلى الوحيِ المقدسِ كانت من سفرِ التكوين. فمن الواضح أنَّه كان عارفاً بشكل جيّدٍ أهمية موضوع الأصول.
بالإضافة إلى ذلك فإن يسوع المسيح لم يتعامل مع سفر التكوين بطريقةٍ مَجازية، شِعريةٍ، أُسطوريةٍ أو بِطريقة الأمثال. فيسوعُ قد تكلَّمَ عن موسى، وقد أشار إليه بوصفِه شَخصيّةً حقيقيّة تاريخية (يوحنّا ٥: ٤٦-٤٧). ولا يوجد أي تلميح إلى أنّ يسوع قد أخذ أي سردٍ من سفر التكوين على أساسٍ غير أساسِ كونَه سرداً تاريخياً. في الحقيقة، إن يسوع المسيح كان فاهماً أن أساسات الحقائق الأخلاقية للمسيحية تقع في سفر التكوين التاريخي. وهذا ما قام بعرضِه في تعليمِ الزواج.
في متى ١٩: ٣-١٢ أتى الفريسيّون مُعتَرِضين ومُجَرِّبين يسوع بسؤالٍ عن الزواج. وقد أرادوا تحديداً أن يعرفوا فيما إذا كانَ يحق للرجلِ أن يطلّقَ زوجتهُ لأيِّ سببٍ. وكان ردُّ يسوعَ بأنَّ الطلاق قد سُمحَ به بسببِ عدمِ الوفاء أي الخيانة. ثم أسهَب بالشَّرح لهم قائلاً بأنه قد أصبح ضرورياً نتيجة لقساوة قلبِ الإنسان. بما معناه، لو كان البشرُ صالحينَ في مواقِفِهم وأعمالِهُم، لما كان هنالك من حاجةٍ لوجودِ قانونٍ يتعلّقُ بالطلاق، إذ أنَّه ليس من وجودٍ للخيانة في تلك الحالة. إن الله أراد أن يكون الزواجُ مبنياً على رجلٍ واحدٍ وامرأةٍ واحدةٍ يتّحِدانِ ويصيرُ الإثنان جسداً واحداً طوال الحياة. لذلك يسوع المسيح قد اقتبسَ من التكوين ١ و ٢ مبيّناً أن أساس مفهوم الزواج (كذلك الأمر بالنسبة لقاعدة القانون المؤسف المتعلق بالطلاق) إنما هو في سفرِ التكوينِ التاريخيّ.
يزعَمُ بعضُ الناس مخطئين بأن الأصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين يقدمان روايتين متناقضتين للخلق. إلا أن يسوع المسيح (الذي هو الله الكلمة مُعطي الوحي للنص الوارد في سفر التكوين) اقتبسَ منهما في نَفَسٍ واحدٍ. ولم يرى أي تناقضٍ بينهما لأن هكذا تناقض لا وجود له. ببساطة، إن الأصحاح الثاني هو وصف تفصيليّ لأحداث اليوم السادس من أيام الخلق.
يميل عدد كبير من المسيحيّين إلى مزج الإيمان بالتطور، بإيمانهم بالمسيح. لكنه من الواضح أن المسيح قد قبِلَ وعلَّمَ بتاريخيّة سفر التكوين. فلماذا لا يقوم بذلك كل من اتَّبعَ المسيح؟ وإن لم يكن من الممكن أن نثق بأن المسيح كان مُحقّاً فيما يتعلق بتاريخ العالم، كيف يمكننا أن نثقَ بأي تعليمٍ آخر قد علَّمهُ؟