العدل، القضاء والحق מִשְפָּט [مِشپات] ⁩

العدل، القضاء والحق מִשְפָּט [مِشپات] ⁩

Cover Image for: justice

العدالة מִשְפָּט [مِشپات] بحسب التعريف الذي يقدمه قاموس Lexham للكتاب المقدس هي عمل صالح إلهي يتمّمه الله أو البشر وتكون نتيجته تعزيز المساواة بين الناس. ترتبط الكلمة برفع الصالحين والمظلومين وتكسير الأشرار والظالمين.

العدالة في الشرق الأدنى القديم

كان لمفهوم العدالة الإلهية في الشرق الأدنى القديم ارتباط مباشر بكلام الملك. حيث أن كلام الملك الرسمي كان يعتبر إعلانات صالحة وتعبر عن الصلاح. ويظهر هذا الارتباط من خلال اللغة المكتوبة وذلك ابتداءاً من أقدم اللغات المعروفة، حيث تمَّت الإشادة بالملوك إما على أنهم آلهة أو على أنَّه قد تمَّ تنصيبهم من قِبَل الآلهة.
انتشرت هذه الأفكار والعقائد خلال فترة السومريّين (٤٥٠٠-١٩٠٠ ق.م) وقد قامت بالربط بين مفهوم العدالة الإلهية وكلام الملك. وفي الفترة التي رافقت سلطان حمورابي كان الملوك البابليون قد توقفوا عن الإشارة إلى أنفسهم على أنهم آلهة إلا انهم حافظوا على ادعاءاتهم بأنهم مُعيّنون من قِبَل الآلهة.
كانت وظيفة الملك وفقاً لمقدمة قانون حمورابي هي ”جعل العدالة تسود في الأرض لإزالة الأشرار والشر حتى لا يَظلِمَ القويّ الضعيف“. كان الإعتقاد السائد حينها أن الآلهة قامت بتعيين الملك حمورابي بهدف حماية الشعب والحفاظ عليه، وبشكل خاص أولئك المحرومين. وكانت هذه الآراء هي السائدة شكَّلت الأساس لمفهوم العدالة في الشرق الأدنى القديم حيث أنَّ إطاعة كلمة الملك كانت أمراً واجباً حتى يتم قمع الشر ونشر الصلاح والبرّ.

العدالة في الكتاب المقدس

يشير مفهوم العدالة في العهد القديم إلى الأفعال التي يُقرّها الرب الإله والتي تعمل على تعزيز سعادة ومساواة البشر عموماً. وتطبيق العدالة كان يتم إما من خلال معاقبة الظالمين أو تبرئة المظلومين، وكان يوجد بشكل مرافق مفهوم عودة البشرية إلى السلام حيث يتم تصحيح الأشياء الخاطئة وإعادة الأشياء التي تمَّ سلبها إلى أصحابها لتحقيق الإزدهار.

إن العهد القديم يقوم بتعديل مفهوم العدالة الذي كان سائداً في الشرق الأدنى القديم حيث يُجرِّد الملوك من عِصمَتِهم  في إعلان الكلمة الإلهية.

على الرغم من أن الشخص الذي أعلن عن التوراة لم يكن ملكاً بابلياً تسلم ”هديته“ من قبل إله العدل الوثني، ولم يكن ”ملك البر“ (ملكي صادق، ارمياء ٢٣: ٥؛ دانيال ٩: ٢٤؛ العبرانيين ٧: ٢) إلا أنَّ التوراة حافظت على عصمتها بوصفها الكلمة الموحاة من قِبَل الرب الإله حيث أنه تمَّ الإعلان عنها من خلال الأنبياء، حيث أن النبي هو الذي يُدعى من قبل الله ليعلن كلمة الله ويدعو الناس إلى حياة البر وحفظ الشريعة المعلنة في التوراة.

على الرغم من أن بعض شرائع التوراة قد تبدو غير عادلة بالنسبة للقراء المعاصرين، إلا أنها لا تلقى ذات الصدى عند القراء المطلعين والجمهور المعاصر لها، ويمكن أن يتم وسمها بالشرائع المتطورة والتقدمية. على سبيل المثال، وفق قانون حمورابي فإنَّه حتى إن تسبب ثور ما نتيجة لنطحة أحد الأشخاص بموت ذلك الشخص (وإن كان الشخص حرّاً) فإنه لا يمكن أن يتم تقديم أيّ شكوى بحق المالك. ولكن إن كان الثور نطّاحاً وأُشهد على صاحبه، فإنه يمكن أن يتم تغريم المالك بمبلغ صغير من المال. إلا أن الشريعة في التوراة تقول بأنَّه إذا قتل ثور أي رجل أو امرأة فإنه يجب أن يرجم الثور ولا يؤكل لحمه. علاوةً على ذلك، إن كان الثور نطّاحاً فإنه من الممكن أن يتم قتل المالك إذا كان قد أُخبِرَ بذلك ولم يقم بضبط الثور (الخروج ٢١: ٢٨-٢٩). وبخلاف الكثير من القوانين التي كانت سائدة في الشرق الأدنى القديم، فإن التوراة قد ثمَّنَت وقدَّرت جميع أشكال الحياة البشرية، وكانت قيمة الرجال والنساء الفقراء مساويةً لقيمة الأشخاص الأحرار من مُلّاك الأراضي.

لا يستطيع أي مجتمع أو أمة الصمود والإستمرار دون العدالة. إن العدالة هي من أهم المفاهيم التي تضمن استمرار عمل المجتمع بشكل سليم. والكلمة العبرية التي تترجم ”عدالة، حقّ“ هي كلمة ”מִשְפָּט [مِشپات] “ (سفر آموس ٥:٢٤). ويتم ترجمة هذه الكلمة في مواضع كثيرة على أنها ”القضاء“ إلا أنَّه من الواجب علينا أن نتعامل مع مفهوم الكلمة الذي يشير إلى القضاء الذي يتسبب بالخلاص والعدل وليس أي قضاء قد يكون مشوباً أو متحيزاً لأحد الأطراف.

إن جذر الكلمة العبرية هو الفعل ”שְׁפָּט“ [شفات] والذي يحمل مجموعة من المعاني مثل: حلّ النزاع، اتخاذ قرار، حُكم، إحقاق العدالة، عمل تسوية ويتم تحديد المعنى من خلال السياق النصي. ويمكن أن يتم تقديم الكلمة بمعنى: عدالة، قانون، حكم، دعوى قضائية و قضاء.

كان ميخا واشعياء قد حملا رسالة الله ومطالبته بالعدل لشعبه، ونسمع صراخ اشعياء بين ثنايا صفحات الوحي المقدس وهو ينادي الإسرائليّين لكي يطلبوا العدل ويُنصفوا ويحاموا عن المحتاجين (اشعياء ١٧: ١، ٢٣، ٢٧). لكن الله حين نظر إلى أورشليم بحثاً عن العدل لم يجد إلا الظلم والعنف فيها.

ونقرأ عن النبي عاموس الذي كان يهتم بالناس المحرومين في مجتمع غني طبقيّ بنى تلك الحواجز والثروات على حساب الفقراء والمضطهدين والأرامل والأيتام. كان النبي عاموس قد لاحظ انعدام العدالة عن المحاكم في الدعاوى التي للمحتاجين والمظلومين (عاموس ٢: ٧؛ ٥: ١٢). لقد تمَّ إفساد العدل إلى درجة أن النبي يقول أن العدالة قد فسدت لدرجة أنه بات يطلق عليها اسم السم الذي كان يتسبب بالدمار لشعب الله (عاموس ٥: ٧؛ ٦: ١٢). إلا أنَّ الرب الإله قال على لسان عاموس: ”وَلْيَجْرِ الْحَقُّ كَالْمِيَاهِ، وَالْبِرُّ كَنَهْرٍ دَائِمٍ.“

إن الله هو عادل وهو القاضي المطلق لكلّ الناس. وهو سوف يقوم بتحقيق العدالة لجميع الأمم (اشعياء ٥١: ٥). في الحقيقة إن الله الجبار سوف يتعالى من خلال عدله (اشعياء ٥: ١٦) وهو يحبُّ ”מִשְפָּט، العدل“ (اشعياء ٦١: ٨).

إن يسوع المسيح قد تجسد واتخذ طبيعتنا البشرية ليكون ذلك العبد المختار ليُعلِنَ الحق للأمم والذي أُنبئ عنه في العهد القديم (متى ١٢: ١٨). ومن خلال المسيح فإن الله قد أظهر عدله تجاه البشرية جمعاء (رومية ٣: ٢٥). وهو سيأتي مرة أُخرى ليحكم ويحارب بالعدل (أعمال الرسل ١٧: ٣١؛ سفر الرؤيا ١٩: ١١)، لذلك فإنه من الواجب علينا أن نكون مستعدين بالجسد والروح لملاقة يوم الرب العظيم لئلا نحسب أعداء له ونَبيدَ إثر ذلك. ليس لنا أعمال برٍّ قادرة على مصالحتنا معه بل لنا دمه الطاهر البريء الذي سفكه طوعاً لأجل الصفح عن خطايانا، وحياة البر التي عاشها لكي تحسب لنا حتى نُحسب نحن أبرار بالإيمان. وننال عطية الله بالخلاص من خلال الإيمان بالإبن الوحيد والحمل الذي بلا عيب أو دنس، له المجد والكرامة الآن وإلى الأبد.

إن المشكلة المعاصرة مع مفهوم العدالة هي أنَّه يتم تقديم تعريفات فضفاضة لهذا المفهوم خارج حدود مطلقات الكتاب المقدس، أي دون الإلتجاء إلى السلطان المطلق الإلهي وبذلك بالإعتماد على الآراء البشرية العلمانية الصرفة. والنتيجة هي من خلال ظهور ما يعرف بإسم ”العدالة الإجتماعية“ التي ترتكز على مفاهيم حقوق الإنسان والمساواة وتشتمل على نظام ضريبي تصاعدي لتحقيق درجة أكبر من المساواة وإعادة توزيع الدخل أو حتى إعادة توزيع الملكية. هذه الأمور قد نجد تطبيقاتها من خلال برامج المعونات الإجتماعية التي ترتكز في جمع الأموال على السياسات الضريبية التصاعدية بحسب الدخل، أي أن الحكومات تأخذ من الأغنياء وتعطي للفقراء.

يوجد عدد من المفاهيم الخاطئة التي تشوب فكرة ”المساواة الإقتصادية“وأهمها أنها تفترض وبشكل مسبق أن الأغنياء قد شكَّلوا ثرواتهم نتيجة لاستغلال الفقراء. ونجد هذا الأمر واضحاً في الكتابات الشيوعية وخاصةً في كتابات كارل ماركس. إن هذا الأمر قد يكون صحيحاً في بعض الحالات إلا أنه من غير الممكن أن يتم تعميم هذه الفرضية. إضافةً إلى ذلك فإن ثمار هذه البرامج الإشتراكية التي تعمل على تحقيق المساواة الإقتصادية ليست صالحة، فهي تتسبب بالمشاكل أكثر مما تساهم في تقديم الحلول. على سبيل المثال، إن نظام الإعانة الإجتماعية يستخدم الضرائب العامة لدعم الأشخاص الذين لا يجدون دخلاً كافياً أو يعانون من البطالة، وغالباً ما يتسبب هذا النظام بنوع من الإتكالية لدى متلقي هذه الإعانات بدلاً من محاولة تحسين ظروفهم من خلال تطوير ذواتهم (هذا ما يعرف بالأموال السهلة المنال). وبإمكاننا أن نقرأ التاريخ القريب والواقع الراهن لنعرف أن جميع المحاولات الإشتراكية والشيوعية قد باءت بالفشل وذلك لأنها قامت باستبدال الفوارق الطبقية بين النبلاء والعامة بفوارق جديدة هي بين العمال والسياسيّين.

إن هذا المفهوم للعدالة الإجتماعية يختلف عن المفهوم الذي يقدمه الكتاب المقدس، فنحن نستطيع أن نقرأ أوامر الرب الإله لاسرائيل بمساعدة الفقراء والمعوزين (تثنية ١٠: ١٨؛ ٢٤: ١٧؛ ٢٧: ١٩). حيث يشير الكتاب المقدس إلى الأرامل والأيتام والغرباء الذين لا يستطيعون إعالة أنفسهم. ومن أشد الأمور وضوحاً في هذا الخصوص هي ما يختص بالتعليمات المختصة بالحصاد، حيث أنَّه  كان من الواجب عدم التقاط الثمار أو جمع الحصاد من زوايا الحق وأطرافه، بل يجب أن تترك للفقراء والمحتاجين. وكذلك ما يختص بالأسابيع، حيث كان يجب أن ترتاح الأرض في السنة السابعة التي تكون ثمارها لطعام الفقير والمسكين والمالك وحيوان البرية على حدٍّ سواء. (اللاويين ١٩: ٩-١٠، ٢٥: ٣) إن عدم التزام اسرائيل بهذه الضوابط والأوامر الإلهية كان سبباً في دينونة الشعب وطردهم من أرضهم إلى أرض السبي والغربة.

نجد في العهد الجديد تعليم الرب يسوع المسيح عن وجوب مساعدة الآخرين والفقراء والمحتاجين الذي تبعوه وتجمعوا حوله، وربما تكون الآية المشهورة التي أكد عليها الرب هي ”تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ.“ (متى ٢٢: ٣٩)، هذا التعليم يظهر أيضاً من خلال رسالة يعقوب الرسول الجامعة حيث يتم تقديم تعريف عن الديانة الحقيقية التي تعكس الأعمال الخارجية الإيمان الداخلي (يعقوب ١: ٢٧). إن المفهوم المسيحي للعدالة يختلف عن المفهوم المعاصر لها فالأوامر بمساعدة الفقراء والمحتاجين في الكتاب المقدس تمتلك طابعاً شخصياً وليس مجتمعياً، أي أنَّ الأوامر هي للأفراد في حين أن الفهم المعاصر يقوم باستبدال الأفراد بالحكومات التي تقوم بتوزيع الثروات من خلال الأنظمة الضريبية وسوى ذلك من الوسائل. إلا أنَّ هذه السياسة لا تشجع على العطاء والبذل القائم على المحبة بل بالحري تتسبب بالإستياء من جانب الأشخاص الذين يرون أنَّ ما تعبوا في تحصيله يؤخذ منهم عنوةً.

النقطة الأُخرى هي أن الكتاب المقدس لا يفترض بأن الثراء أمر شرير، بل يعلم بأنَّ الأثرياء مؤتمنون ووكلاء على ثرواتهم لأنَّ كل الثروة هي من الرب (تثنية ٨: ١٧-١٨).

أخيراً إن مفهوم العدالة الإجتماعية المعاصر لا يمنح الحرية في اختيار البرامج الإجتماعية التي يرغب الأشخاص في دعمها، إذ أنَّ الحكومات هي التي تقرر الآلية التي سيتم وفقها توزيع الضرائب حتى وإن انتهت تلك الأموال إلى أيدي هيئات أو أشخاص قد لا نعتقد باستحقاقهم لها.


آيات مفتاحية:

الخروج ٢٣: ٦ ”لاَ تُحَرِّفْ حَقَّ فَقِيرِكَ فِي دَعْوَاهُ.“

الملوك الأول ٧: ٧ ”وَعَمِلَ رِوَاقَ الْكُرْسِيِّ حَيْثُ يَقْضِي، أَيْ رِوَاقَ الْقَضَاءِ، وَغُشِّيَ بِأَرْزٍ مِنْ أَرْضٍ إِلَى سَقْفٍ.“

المزمور ٩: ١٦ ”مَعْرُوفٌ هُوَ الرَّبُّ. قَضَاءً أَمْضَى. الشِّرِّيرُ يَعْلَقُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. ضَرْبُ الأَوْتَارِ. سِلاَهْ.“

المزمور ٩٩: ٤ ”وَعِزُّ الْمَلِكِ أَنْ يُحِبَّ الْحَقَّ. أَنْتَ ثَبَّتَّ الاسْتِقَامَةَ. أَنْتَ أَجْرَيْتَ حَقًّا وَعَدْلاً فِي يَعْقُوبَ.“

المزمور ١٤٠: ١٢ ”قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الرَّبَّ يُجْرِي حُكْمًا لِلْمَسَاكِينِ وَحَقًّا لِلْبَائِسِينَ.“

عاموس ٥: ٧ ”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ يُحَوِّلُونَ الْحَقَّ أَفْسَنْتِينًا، وَيُلْقُونَ الْبِرَّ إِلَى الأَرْضِ.“

عاموس ٥: ١٥ ”اُبْغُضُوا الشَّرَّ، وَأَحِبُّوا الْخَيْرَ، وَثَبِّتُوا الْحَقَّ فِي الْبَابِ، لَعَلَّ الرَّبَّ إِلهَ الْجُنُودِ يَتَرَاءَفُ عَلَى بَقِيَّةِ يُوسُفَ.“

عاموس ٥: ٢٤ ”وَلْيَجْرِ الْحَقُّ كَالْمِيَاهِ، وَالْبِرُّ كَنَهْرٍ دَائِمٍ.“

عاموس ٦: ١٢ ”هَلْ تَرْكُضُ الْخَيْلُ عَلَى الصَّخْرِ؟ أَوْ يُحْرَثُ عَلَيْهِ بِالْبَقَرِ؟ حَتَّى حَوَّلْتُمُ الْحَقَّ سَمًّا، وَثَمَرَ الْبِرِّ أَفْسَنْتِينًا.“


مراجع: