تامّ، תָּם

تامّ، תָּם

Cover Image for: perfect

إن الإدانة النقدية التي تسيطر على تفكيرنا تمنعنا من وصف الأشخاص الآخرين على أنهم كاملين، إلا أن الوحي المقدس يقول عن عدد من الأشخاص أنهم كاملين- على سبيل المثال، نوح وداود (التكوين ٦: ٩؛ صموئيل الثاني ٢٢: ٢٤).

إن موضوع الكمال قد تعرَّض للفحص الدقيق في سفر أيوب، ونجد أنَّ أيوب قد وُصِفَ من قِبَل الربِّ على أنَّه رجلُ كامل ومستقيم ويحيد عن الشرّ (أيوب ١: ٨، ٢: ٣ وكذلك أيوب ٣١: ٦). وهنا تظهر مُعضلة سفر أيوب التي يمكن أن نلخصها من خلال السؤال البسيط التالي: كيف يمكن للشخص الكامل أن يُكابد كلّ تلك المعاناة؟ أو كيف سيكون ردّ فعل الشخص الكامل في مواجهة المعاناة التي لم يستحقَّها؟

فلنبدأ بتساؤل عن صفة التمام وما تنقله لنا عن شخصية أيوب. ومن المفيد في هذا المقام أن نقوم بالنظر إلى الصفة العبرية تامّ [תָּם تُقرأ تام] والمشتقة من الجذر تَمَّم [תָמם ويُقرأ تامم] في العهد القديم. إن الجذر العبري تَمَّمَ [תָמם ويُقرأ تامم] يشير بشكل رئيسيّ إلى ”الإكتمال أو التكلمة والتَّتميم“ سواء كان ذلك على المستوى الماديّ الفيزيائيّ أو على المستوى الأخلاقيّ. والأمر الغالب هو أن نجد الفعل مُستخدماً في في سياقٍ يصف اقتراب أحد الأشياء من نهايته (كما هو الحال في التكوين ٤٧: ٢٢) أو اقتراب أحد الأشياء من الإكتمال (كما في الملوك الأول ٧: ٢٢). وفي بعض الأحيان وبدرجة أقل شيوعاً نجد أن الفعل يستخدم بمعنى ”ليكن سليماً أو مرضيّا [تامّاً]“ (كما في المزمور ١٩: ١٤). كما ويوجد صفة عبرية أُخرى وهي תָּמִים [تاميم] والتي تستخدم عادةً في السياق الطقسي الذي يصف جودة الحيوان الذي يقدم كذبيحة ”صحيح، سليم، بلا عيب“ (انظر الخروج ١٢: ٥). وأخيراً نجد الإسم  العبري תֹם [يُقرأ تُوم] بمعنى تمام أو كمال (كما في اشعياء ٤٧: ٩)، والأمر الغالب في هذا الإسم أنَّه يأتي حاملاً دلالة على البراءة أو الطهارة (كما في صموئيل الثاني ١٥: ١١) أو النزاهة والإستقامة (كما في سفر الأمثال ١٣: ٦). إن الجذر العبري يرد ثمانية عشر مرة في سفر أيوب (١: ١، ٨؛ ٢: ٣، ٩؛ ٤: ٦؛ ٨: ٢٠؛ ٩: ٢٠-٢٢؛ ١٢: ٤؛ ٢١: ٢٣؛ ٢٢: ٣؛ ٢٧: ٥؛ ٣١: ٦، ٤٠؛ ٣٦: ٤؛ ٣٧: ١٦). إن استخدام هذه الصفة لوصف أيوب بهذا الشكل المتكرّر ابتداءً من الآية الأولى ليس مجرّد مصادفة، فإن مفهوم الكمال أو البر الذي يُنسب إلى أيوب إنما هو قلب الرسالة المتضمة في هذا السفر. ونجد أن الكاتب (أيوب ١: ١) والرب الإله (أيوب ١: ٨؛ ٢: ٣) يستخدمون תָּ֧ם [تامّ] لوصف شخصية أيوب. إلا أننا نجد وصفاً لمعاناة أيوب عبر صفحات هذا السفر، كما ونجد أن أصدقاء أيّوب يشيرون بشكل عملانيّ دوغماتي إلى أنَّ الأشرار هم من يعانون في حين أن الأبرار ينجحون (أيوب ٥: ٦؛ ٨: ٤-٧، ١١-٢٠؛ ١٨: ٥-٢١؛ ٢٠: ٢٦-٢٩؛ ٢٢: ٢-١١)، في حين أنَّ أيوب بقي متمسّكاً ”بكماله“ (תֻּמָּה [تَمَّه]) حتى في وقت اليأس والملمات التي أصابته (أيوب ٢: ٣، ٩؛ ٢٧: ٥؛ ٣١: ٦). إن الأمر المثير للإهتمام هو أنّ عدم رغبة أيوب في الإعتراف بالخطأ قد أودى به إلى أن يتَّهم الرب الإله (يهوه) بأنَّه يُعامل الأبرار والخطاة بالطريقة ذاتها (أيوب ٩: ٢٠-٢٢؛ ٢٢: ٣).

كيف تمَّ التوفيق بين كمال أيوب الأخلاقي والروحي وبين المعاناة التي قاساها؟

من جهة أولى نجد أن أيوب قد حُفِظَ في هذه المِحَن كُلها. فالرب الإله قد حَفِظَه ولم يدعه يهلك كما أنَّ ظهور الله له ومُحاجَجتَه كردّ فعل على قسم أيوب بالنقاء (القسم الذي يرد في الإصحاح ٣١) يُبيّن أن أيُّوب لم يقم بشي يستحق عليه هذه المعاناة. لكن حقيقة نجاة أيوب من لقاءه مع الله تُثبت إبراءَه. وعلى الرغم من ذلك نجد أن رسالة الرب الإله إلى أيوب قد تجاهلت قضية طهارة أيوب وبرّه بشكل كامل، ونجد أنها تركز بشكل كامل على ترتيب ونظام الخلق. يمكننا أن نقوم بتلخيص الجدل الذي قدَّمه الله بالشكل التالي: (١) أنا هو الرب الإله (يهوه) وأنا مُسيطر على الكون الذي خَلَقتُهُ؛ (٢) ما تراه أنت كفوضى وتشوُّش قد تمَّ خَلقُه كجزءٍ من النظام الطبيعي مثله مثل الإنسان؛ لذلك (٣) لا ينبغي النظر إلى الظواهر ”الفوضوية“على أنَّها أحداث أخلاقية أو غير أخلاقية، بل على أساس أنها أحداث لا علاقة لها بالأخلاق.

إنَّ أيوب بنى جدله المُتعلِّق بمعاناته على أساس كونه بارّاً وبلا لوم، لكن تطبيق الجدل الإلهي يتطلب من أيوب أن يقوم بإعادة تقييم وتعديل موقفه؛ إن ردَّ الرب الإله هو أن القضايا الأخلاقية قد لا يكون لها أي ارتباط بمعاناة أيوب وعائلته. وبالتالي فإنَّ أيوب قد أخطأ حين ربط بين معاناته وبين وضعه الأخلاقي.

إن الدرس الذي يمكننا استخلاصه من حياة أيوب هو أنَّنا كمشاركين في أحداث هذا العالم المخلوق، يجب علينا ألا نعتقد بأنَّ كلَّ ما يصيبنا - سواء كان جيداً أم سيئاً- مرتبط باستحقاقنا له. إن هذا الموقف يُنكر حقّ الله في اختيار الزمان والمكان الذان سيمنح فيهما النعمة. عوضاً عن ذلك، يجب أن نسعى جاهدين إلى محاكاة حياة أيّوب بوصفه شخصاً كاملاً متمسكين بالإيمان الصرف، خادمين الله نتيجة لماهيّته واستحقاقه للخدمة وليس نتيجةً للهبات والعطايا التي يُقدمها.

إن كمال الأشخاص هو كمال نسبيّ وليس كمال مطلق، فالكامل الوحيد هو الله الذي أعلن عن ذاته من خلال الكلمة المقدسة، وأظهر كماله من خلال تجسد الأقنوم الثاني (الإبن الوحيد) الذي اتَّخذ طبيعتنا البشرية وحاملاً عار خطايانا على خشبة الصليب.


الآيات المفتاحية: 

صموئيل الثاني ١٥: ١١ ”ودعا أبشالومُ مئتَي رجُلٍ مِنْ أورُشليمَ فلبّوا الدَّعوةَ على سلامةِ نيَّةٍ وهُم لا يَعلَمونَ شيئا.“ (من الترجمة العربية المشتركة)

أيوب ١: ٨ ”فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ، يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ».“

أشعياء ٤٧: ٩ ”فَيَأْتِي عَلَيْكِ هذَانِ الاثْنَانِ بَغْتَةً فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ: الثَّكَلُ وَالتَّرَمُّلُ. بِالتَّمَامِ قَدْ أَتَيَا عَلَيْكِ مَعَ كَثْرَةِ سُحُورِكِ، مَعَ وُفُورِ رُقَاكِ جِدًّا.“

الأمثال ١٣: ٦ ”اَلْبِرُّ يَحْفَظُ الْكَامِلَ طَرِيقَهُ، وَالشَّرُّ يَقْلِبُ الْخَاطِئَ.“


مراجع:

الوسوم

عبري